إن الذين نفوا وجود التكرار في القرآن يرون أن المقصود من كل كلمة تكرّر لفظها في القرآن، هو غير نفس تلك الكلمة في موضع آخر. فإذا تكرّرت كلمة في القرآن مرتين، فالكلمة واحدة، لكن المعنى والمقصود اثنان. وإذا تكرّرت كلمة أو آية في القرآن خمس مرات، فالكلمة واحدة، لكن المعاني والمقاصد خمسة. وهكذا دواليك.. ويُسمّون ذلك بـ"علم الإحكام والتفصيل"1 . يقول القاضي أبو بكر الباقلاني: "لقد علمنا أن الله تحدّى المعارضين بالسور كلها ولم يخصّ، فعُلم أن جميع ذلك معجز، وذلك لأن الكلمات المكرّرة لفظًا، هي ذات معان جديدة بعد تكرارها" 2 .
ويضرب الخطيب الإسكافي مثلاً على ذلك، فيقول: "إن قوله تعالى: ﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {4} ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾ 3 ، يدلّ على اختصاص الآية الرابعة من السورة بالعلم في الدنيا، ثم اختصاص الآية الخامسة من هذه السورة بالعلم في الآخرة، فهو إذن ليس بتكرار، ولم يُرد بالتالي ما أراد بالأول.." 4 . ويقول الكرماني ما مؤدّاه: "إن قوله تعالى في سورة الفاتحة ﴿ عَلَيهِمْ ﴾ في موضعين بهذه الآية ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ لا تكرار فيه، لأن المراد بالأول الإرتباط بمعنى الإنعام، أما المراد بالثاني فهو الإرتباط بمعنى الغضب" 5 .
أما الفريق الثاني، فرأى في التكرار أسلوبًا من أساليب العرب التي جاء بها القرآن ليحقّق أهدافًا معيّنة تثري المعنى؛ فالتكرار عندهم ظاهرة بلاغية لا يفطن إليها إلا كل من له بصر بفنون القول، وهو في القرآن أروع وأجمل من أن تتطاول إليه ألسنة المتقوّلين. يقول الزركشي: "وقد غلط من أنكر كونه _ أي التكرار _ من أساليب الفصاحة، ظنًّا أنه لا فائدة له، وليس كذلك بل هو من محاسنها، لا سيّما إذا تعلّق بعضه ببعض.. وفائدته العظمى التقرير، وقد قيل: الكلام إذا تكرّر تقرّر" 6 .
فالتكرار يؤدّي عند الفريق الثاني وظيفتين: أولاهما: من الناحية الدينية، وثانيتهما: من الناحية الأدبية7 . أما الناحية الدينيّة، فباعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع، فإن أهم ما يؤدّيه هو تقرير المكرّر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون أمثل في السلوك وأبْيَن للإعتقاد. يقول الزمخشري: "فائدته أن يجدّدوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارًا واتّعاظًا، وأن يستأنفوا تنبّهًا واستيقاظًا، إذا سمعوا الحثّ على ذلك البعث، وأن يقرع العصا مرات، ويقعقع لهم الشنّ تارات، لئلا يغلبهم السّهو، ولا تستولي عليهم الغفلة" 8 .
ويقول في موضع آخر: "إن في التكرير تقريرًا للمعاني في الأنفس، وتثبيتًا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفّظ العلوم إلا ترديد ما يُرام تحفّظه منها. وكلّما زاد ترديده كان أمكن له في القلوب، وأرسخ له في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان؟" 9 . وأما من الناحية الأدبية، فالهدف منه الإستلذاذ، أو التوكيد، أو زيادة التنبيه، أو التهويل، أو التعظيم..
هذا بالنسبة لمفهوم التكرار عند القدامى. فإذا انتقلنا إلى الدراسات في عصرنا الحديث، نرى أن هذا الخلاف لم يمتدّ طويلاً، حيث تبنّى معظم الباحثين المحدثين موقف الفريق الأول، الذي نفى التكرار من القرآن تمامًا، ثم داروا في فلكه، يبرّرون أنواع التكرار بمسمّيات جديدة. يقول العفيفي: "إن إحكام القرآن وتفصيله هو العلم الذي يضمن لنا أننا كلّما احتجنا إلى أي مفردة قرآنية وجدناها بأي موضع من مواضعها، كالحرف الواحد في الكلمة، يعني المكرّر في كلمة واحدة التي تجمع حروفها جميعًا في جملتها، فإذا كل حرف بموضعه الخاص به تفصيلاً، يعني كل حرف غير الآخر، لا أنه مكرّر، وإذا الحروف جميعًا تامّة الإرتباط بها كلها إجمالاً" 10 .
العفيفي يرى أن تكرار آيات القرآن ليس إلا للفظ، وهو في كل سورة معنًى إبداعي مُعجز: "..فإذا تعدّدت المواضع في القرآن كله بآية، أو جملة أصغر من آية، أو كلمة، أو حرف كان كل من ذلك ثابتًا في نصّه بلا تبديل، وإنما لكل مفردة منه عمل جديد، بكل موضع جديد، حتى إذا احتاج أي إنسان منا بأي زمان أو مكان إلى النظر فيما تصلنا به كل مفردة من هذه المفردات في سياقها من أي موضع، وجدنا لها حسابًا، فيه تعميم إلهي معجز، من حيث تقدير جملة مواضع كل مفردة، ومن حيث جملة ما تربطنا به من المقاصد" 11 .
وهذا الأستاذ محمد قطب يطلق على التكرار إسم "التنويع"، يقول: "الظاهرة الحقيقية ليست هي التكرار، وإنما هي التنويع.. لا يوجد نصّان متماثلان في القرآن كله، إنما يوجد تشابه فقط دون تماثل، تشابه كذلك الذي قد يوجد بين الإخوة والأقارب، لكنه ليس تكرارًا.. إنه مثل ثمار الجنة: ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ 12 . فهم حين يتناولون الثمرة لأول مرة يقولون: هذا الذي رُزقنا من قبل. فإذا تذوّقوه عرفوا أنه مختلف عنه، يشبهه ولكنه لا يماثله" 13 "إنه هكذا التنويع في القرآن الذي يُخيّل للناس أنه تكرار" 14.
والخلاصة أنه مع اختلاف العلماء في إطلاق التكرار على ذلك الأسلوب القرآني أو عدمه، فإن النظر في أقوالهم يوضّح لنا أنهم لا يختلفون في أن كل موقف يختصّ بحالة أخرى غير التي جاء بها الأول، وله موقف خاصّ، وجوّ خاصّ، وأهداف خاصّة، ويعطينا معاني جديدة إما تكون واضحة من إضافات نراها في الكلام، أو من خلال ما نستنتجه من فروق بين نصوص متشابهة.
وعلى الرغم من هذا وذاك، إلا أننا نجد أن بعض البحوث المتجدّدة والمستحدثة قد تميّزت في دراستها لهذه الظاهرة عن المدخل التراثي الذي تعرّضنا له آنفًا. حيث قام بعض الباحثين بتقسيم التكرار إلى نوعين آخرين: الأول: محلّي أو موضعي، والثاني: شامل أو متكرّر 15 .
وعند النظر فيما طُبّق من هذه البحوث على نصوص أدبيّة، نجد أن هذا التقسيم قد ساعد على الكشف عن مدى تأثير التكرار على النصوص الأدبية، وذلك بحساب معدّلات التكرار لوحدة معيّنة في النصّ المدروس. وقد ظهر تطبيق هذا المنهج على عدد من النماذج، وأدّى إلى نتائج جيّدة في مجال الدراسات النقدية 16 ، فكان من ثمرة ذلك المدخل الوقوف على ظاهرة جديدة ومستحدثة تُسمّى "المفاتيح".
--------------------------------------------------------------------------------